إذَا قال لك: ما يَجِبُ له تعالى وما يَستَحِيلُ عليه؟
فقل: يَجِبُ له كُلّ كَمَالٍ في حقه ويَسْتَحيلُ عليه كُلّ نَقْصٍ.
ومما يَجِبُ له تَعالَى بعد الوُجُودِ في حقه:
القِدَمُ: ومَعنَاهُ لا أَوَّلَ لوجودِهِ، ويَسْتَحيلُ عليهِ الحدُوثُ. والدّليلُ على ذلِكَ: أنَّهُ لو لم يَكُنْ قَدِيمًا لكانَ حَادِثًا، ولو كانَ حَادِثًا لافتقرَإلى مُحدِثٍ، لأنّ كلَّ حادِثٍ لا بُدَّ له مِنْ مُحدِثٍ، ومُحدِثُهُ يَفْتَقِرُ إلى مُحدِثٍ ءاخَرَ، وهكذا إلى غير نهايةٍ، ودخولُ ما لا نهايَةَ له في الماضي مُحالٌ، والمتوقّفُ على المحالِ مُحالٌ.
ويجِبُ له تعالى: البَقَاءُ: ومعناه لا ءاخِرَ لوجُودِهِ، ويستحيل عليه طروءُ العَدَمِ. والدَّلِيلُ على ذلك: أنَّهُ لو لم يَجِب له البَقَاءُ لأمْكَنَ أن يَلْحَقَهُ العَدَمُ، لكِنَّ لحُوقَ العَدَمِ عليه مُحالٌ، لأنَّهُ لو أمْكَنَ أن يَلحقهُ العَدَمُ لانتفى عنه القِدَمُ، فيلزمُ أن يكون من جملة الممْكِناتِ، وكُلّ مُمكِن حادِثٌ والحدُوث عليه مُحالٌ.
ويجب مخالَفَتُهُ للحوادِثِ، ويستحيلُ مماثَلَتُهُ لها ذَاتًا وَصِفَةً وفِعْلاً. والدَّليلُ على ذلك: أَنَّه لو مَاثَلَ شَيْئًا منها لكان حادِثًا مِثْلَهَا، والحدوثُ عليهِ مُحالٌ.
وَيَجِبُ له تَعَالى: القِيَامُ بِنَفسِهِ: ومعناه أن ذاتَه لا يحتاج إلى مَحلّ يقوم به ولا إلى مُوجِدٍ، وَيَستَحِيلُ عليه ضِدُّ ذلك. والدَّلِيلُ على ذلك: أنه لو احْتَاجَ إلى مَحلّ لَزِمَ أن يكون صِفَةً تَقُومُ بِغَيرِهِ وهو من شَأنِ الحوادِثِ، والله ذاتٌ لا صِفَة ولو احتاجَ إلى مُوجِدٍ لكانَ حَادِثًا، والحدُوثُ عليه مُحالٌ.
ويَجِبُ له تعالى: الوَحْدَانِيَّة في ذاتِهِ وَصِفاتِهِ وأَفْعَالِهِ، ويَستَحِيلُ عليهِ أن يكون مُرَكَّبًا، أو له مُماثِلٌ في ذَاتِهِ أو صِفَاتِهِ، أو يَكُونَ معه في الوجودِ مؤَثّرٌ خالقُ فعلٍ مِنَ الأَفْعَال على الحقيقة، فالأكل يُشبعُ بخلقِ الله الشّبعَ عنده، والنارُ تُحرقُ بخلقِ الله الإحْراق عند مماسّتها، والسكينُ تقطعُ بخلقِ الله القطع عند استعمالِها فالله هو خالقُ الأسبابِ ومُسبَّباتِها، وخالقُ الأكل والشبعِ الذي يحصل بالأكل، فَمَنِ اعتقد أنَّ الأكْلَ يُشْبعُ بِنَفْسِهِ أو النَّارَ تحرقُ بِذَاتِها أو السّكين تَقْطَعُ بِنَفْسِها بدون خلق الله لذلك فَهُوَ كافِرٌ، ولا يَصِحّ ذلك، لأنّه يَلْزَمُ أن يستغنيَ ذلكَ الأثر عن الله تعالى وهو بَاطِلٌ.
ومن اعتقد أن العبدَ يخلقُ فعلَه بقوةٍ خلقها اللهُ فيه فهو كافرٌ أيضًا لأنّه يصيّر مَولانا سبحانه وتعالى مُفتَقِرًا في بعض الأَفعالِ إلى وَاسِطةٍ واحتِيَاجُهُ بَاطِلٌ إذ لو احتَاجَ إلى شىءٍ لكان عَاجِزًا، وكُلّ عاجِزٍ حَادِثٌ والحدُوثُ عليه تعالى مُحالٌ.
ومَنِ اعتَقَدَ أن الله هو المؤثّرُ الحقيقي الخالقُ وحدَهُ في جميع الحادثات فهو المؤمنُ الناجي. والدَّليلُ على وَحْدَانِيّتِهِ تعالى: أنه لو كَانَ مُرَكَّبًا لكان حَادِثًا والحدُوثُ عليه مُحالٌ ولو كان معه إله ءاخر لزِمَ أن لا يوجَدَ شىءٌ مِنَ العَالَمِ وهو باطِلٌ، لأنه لا يخلُو إمَّا أن يَتّفِقَا أو يَختَلِفَا، فإن اختَلَفَا امَّا أن يَنْفُذَ مرادُ أَحَدِهما أو لا، فإن نَفَذَ مُرَادُ أحَدِهِما كان الآخرُ عاجزًا، وإِذَا عَجَزَ أحَدُهما يلزَمُ عَجْزُ الآخر لأنّه مثله، وإنْ لم يَنْفُذ مُرَادُهُما فَعَجزُهُما ظاهِرٌ، وإن اتّفَقَا على وُجُودِ شَىءٍ فإمَّا أن يُوجِدَاهُ مَعًا فَيَلْزَمُ اجتماع مُؤَثّرَين خالِقَين على أثَرٍ واحِدٍ وهو بَاطِلٌ، وإما أن يُوجدهُ الأوّل ثم الثّاني فيلزم تحصيل قال تعالى: ﴿لو كان فيهما ءالهةٌ إلا اللهُ لفَسَدَتا فسبحانَ اللهِ ربِ العرشِ عما يصفونَ﴾ [سورة الأنبياء] أَيْ لم تُوجَد السَّمواتُ والأرضُ سَوَاءٌ اخْتَلَفَتِ الآلِهَةُ أوِ اتَّفَقَتْ.
وَيَجِبُ له تعالى: القدرةُ، ويَسْتَحيلُ عليهِ العَجْزُ. والدَّلِيلُ على ذَلِكَ: أنَّه لَوْ لم يَكُنْ قَادِرًا لكانَ عاجزًا، ولوْ كَانَ عَاجزًا لما وُجِدَ هَذَا العَالَم وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَيَجِبُ له: الإرادةُ، وَيَسْتَحِيلُ عليه الاضطرارُ. والدَّلِيلُ على ذلِكَ: أنَّه لَوْ لم يكن مُرِيدًا لإيجادِ هَذِهِ الأَشْيَاء أو إعْدامِها لكان مضطرًّا، ولو كان مضطرًّا لكان عَاجزًا وكُلّ عَاجِزٍ حَادِثٌ.
وَيَجِبُ له تَعَالى: العِلْمُ: وَهُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ تتَعلَّقُ بالموْجُودَاتِ والمعْدُومَاتِ على وجْهِ الإطْلاقِ دُونَ سَبْق خَفاء. ويَسْتَحيلُ عَلَيْهِ الجهْلُ ومَا في مَعْنَاهُ. والدَّلِيلُ على ذلك: أنهُ لَوْ لم يكن عالما لكان جَاهِلاً لكنّ الجهلَ عليهِ مُحالٌ، لأنَّهُ لو اتَّصَفَ بِالجهْلِ لما وُجِدَ العَالم وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَيَجِبُ له تعالى الحيَاةُ: وَهِيَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لذَاتِهِ، لا تَنْفَكُّ عنه وَلا تَتَعَلَّقُ بِشَىءٍ، وَلا يَعلَمُ حَقِيقتها إلا هُوَ سُبحَانَهُ وتَعَالى، ويَسْتَحيلُ عَلَيْهِ الموْتُ. وَالدَّليلُ عَلَيْهِ: أنَّه لَوِ انتفَتْ حَيَاتهُ لما وُجِدَ العَالَم وَهُوَ بَاطِلٌ. وَالاتصَافُ بِالصفَاتِ الواجبة له مَوْقُوفٌ على الاتصَافِ بِالحياةِ لأَنَّها شَرْطٌ فِيهَا، وَوُجُودُ المشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ بَاطِلٌ.
ويَجِبُ لَهُ تَعَالى: السَّمْعُ: المقدَّسُ عَنِ الأُذُنِ والصّمَاخِ.
والبَصَرُ: المنَزَّهُ عن الحدَقَةِ والأَجْفَانِ ونحو ذلك. وَيَسْتَحِيلُ عليه الصَّمَمُ وَالعمى وَمَا في مَعنَاهُ. والدَّلِيلُ على ذلك قولُه تعالى: ﴿قالَ لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى﴾ [سورة طه] وقوله: ﴿وهو السميعُ البصير﴾ [سورة الشورى]. ولو لم يَتَّصِفْ بِهِما لاتَّصَفَ بِضِدّهما وهو نَقْصٌ، والنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحالٌ لاحْتِياجِهِ إلى من يُكَملُهُ وذلكَ يَسْتَلْزِمُ حُدوثه والحدُوثُ عَلَيهِ مُحالٌ.
وَيَجِبُ له تَعَالى: الكَلامُ: وَهُوَ صِفةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالى تَدُلُّ على جميع المعلومات ليس بِحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، وَلا يُوصَفُ بِتَقدّمٍ وَلاَ تَأَخُّرٍ ولا لحنٍ ولا إعْرابٍ. ويَسْتَحِيلُ عليه البَكَمُ وما في مَعْنَاهُ. والدَّلِيلُ على ذلك قوله تعالى: ﴿وكلَّمَ اللهُ موسى تكليمًا﴾ [سورة النساء] ولأنه لولم يتَّصِفْ بالكَلامِ لاتَّصَفَ بِضِدهِ وَهُوَ نَقْص وَ هو عَليْهِ محالٌ.