فإن قيل: إذا كان كلامُ اللهِ من غير حُرُوفٍ ولا أَصْواتٍ كيف سَمِعَهُ موسى؟
فالجوابُ: أنّهُ من بابِ خَرْقِ العَادَةِ أزَالَ اللهُ عنه المانعَ فَسمعَ الكَلامَ الإلهيّ من غَيْرِ كَيْفٍ وَلا تَحدِيدٍ وَلا جِهَةٍ.
فإذا قال لك: القُرْءانُ كلامُ اللهِ وهو مَكتوبٌ في المصَاحِف مقروء بالأَلسُنِ مَسْمُوعٌ بالآذانِ وهو من سِمَاتِ الحوادِثِ بالضَّرُورَةِ؟
فقل: نَعَمْ، هو في مَصَاحِفِنا بأشكَالِ الكِتَابَةِ وَصُوَرِ الحرُوفِ الدَّالةِ عليه، محفُوظٌ في قُلُوبِنا بِألْفَاظٍ متخيّلةٍ، مَقْرُوء بِألسِنَتِنَا بِحُرُوفِهِ الملفُوظَةِ، مَسْمُوعٌ بآذَانِنَا، ومع ذلك ليس حالاًّ فيها بل هو مَعنًى قديم قائِمٌ بالذَّاتِ يُكْتَبُ ويُقْرَأُ بِنُقُوشٍ وأَشكَالٍ مَوضوعةٍ للحروفِ الدَّالَةِ عليهِ، فلو كُشِفَ عنا الحِجَابُ وَسَمِعْنا الكلامَ الإلهيَّ لَفَهِمْنَا منه الأمرَ كَـ ﴿وأقيموا الصلوات﴾ [سورة البقرة]، والنَّهْيَ كَـ ﴿ولا تقربوا الزنى﴾ [سورة الإسراء]، ونَحْو ذَلِكَ.
فالقرءانُ بمعنى اللفظِ المنزلِ ألفَاظ دَالَّةٌ على معاني كَلاَمِ اللهِ ولا يجوزُ أن يقالَ إنه حادث، وإن كان هو الواقعَ، وإذا أُريدَ بكلامِ الله اللفظُ المنزّلُ على سيّدنا محمدٍ فهو صوت وحروفٌ متعاقبةٌ وهو عبارةٌ عن الكلامِ القديمِ ليس عينه
فإذا قيل القرءان كلام الله قديم أزلي أبدي يُراد به الكلام الذاتي القائم بذات الله، وإذا قيل عن اللفظ المنزل على سيدنا محمد يُراد به هذه الألفاظ التي هي حروف وأصوات علّمها جبريل محمدًا وهو أي جبريل تلقاها من اللوح المحفوظ بأمر الله وليس من تأليفه، لكن يجوز القول بأن القرءان بمعنى اللفظ المنزل في مقام التعليم إنه حادث مخلوق أما في غير ذلك لا يقال لإيهامه حدوث الكلام القائم بذات الله، أما في مقام التعليم فلا بد من تعليم ذلك لئلا يُعتقد أن اللفظ أزلي أبدي وذلك مكابرة للعيان، ولا يجوز أن يُعتقدَ أن الله يقرأ ألفاظَ القرءانِ كما نحن نقرأُ، ولو كانت تجوزُ عليه القراءةُ كما نحن نقرأ لكان مشابهًا لنا